لا شيء يبدو جليّاً، الحلم يتكرّر كعادةٍ أدمنتها. أستيقظُ من النّوم محتفياً بشعور مَن حَلِم حلما ًمزعجاً، لا يذكره أمّا أنا، فقد علقتْ جزئية صغيرة جداً تتعلق بغراب يحاول خطف قبعتي البيضاء عن رأسي مع انطباع يتجلى بإحساس يأخذ ملمس عشبٍ يابسٍ في حلقي حتى أكاد أن أبصقَ بعض الأنصال اليابسة وزيادة على ذلك، ليس في حلقي فقط بل على امتداد جسدي يجتاحني ذلك الإحساس بالعشب اليابس. حفظتُ الحلمَ، فأصبحتْ زجاجة الماء قرب سريري من مستلزمات النّوم الهادئ كما المخدّة الجيدة. أستيقظُ من النّوم أشرب الماء مليناً سقف حلقي غير مكترث لشعور العشب اليابس في جسدي الذي لو أوليته تأويلاً، لخمنْتُ أنّ جسدي سيتكسر ما إنْ أضغط عليه، لكنّي أعاود النّوم. في لحظات الخلوة أحاول أن أربط بين الحلم وحادث ما قد جرى لي، لكن لم أجد ما يثير الاهتمام.
أعمل مراقباً في مصلحة المياه، فأقوم بزيارات دورية على غرف التفتيش الخاصة بالشبكة. قادتني إحدى زياراتي إلى الخطّ الشّمالي الذي يغذّي الضاحية الشمالية حيث أُعلمتُ عن تسرّب للماء من أحد الأنابيب. ركنتُ سيارة البيك أب وتابعتُ الخطّ عبر حقل القمح. في منتصف المسافة بين غرفتي تفتيش للماء وجدتُ التسرّب وقد شكّل بركة صغيرة وما إن اقتربت منها حتى طارت عدّة غربان كانت تشرب الماء، لم أعطِ الأمر أهمية تُذكر، فهذا المشهد مألوف في الحقول، عملتُ على إصلاح التسرّب مع الإبقاء على نزر يسير يسمح بمدّ البركة الصغيرة بالماء؛ كي تشرب الغربان.
وقفتُ على حافة البركة التي تشكلت بعرض متر وطول مترين. كانت الشمس أمامي، فلم أجد انعكاس صورتي في الماء بل انعكاساً لفزاعة طيور، رفعتُ رأسي لأراها، كانت الفزاعة كرجل مشبوح وعلى كتفها الأيسر غراب يحاول نزع قبعتها في حين كسا جسدها المصنوع من القشّ بنطال جينز أزرق وقميص أسود، لا أعرف لماذا خيّل لي، أن ما ترتديه الفزاعة هي ثيابي التي سُرقت منذ حوالي الشّهر عن حبل الغسيل. ضحكتُ من فكرتي وغادرت.
مررت في الطريق على السّوبر ماركت، اشتريت صندوقاً من البيرة وبعض الطعام وجريدة أتابعها وعدّت إلى المنزل، نمتُ لساعة بعد الطعام وكالعادة تكرّر الحلم. في النّهار لا أعاود الغفوة بل أروي جفاف حلقي بزجاجة بيرة باردة وهذا ما فعلته وفي نفس الوقت أتصفح الجريدة, أهمل الأخبار السياسية وأركز على الرياضية, وإن وجدتُ في الصفحة الثقافية ما يُقرأ، أطالعها.
لمحت أسفل الصفحة الثقافية، تحت قصيدة بعنوان " الغراب" مع لوحة لفزّاعة طيور ينعكسُ ظلّها في ماء بركة صغيرة مع أنصال عشب يبدو يابساً يحيط بالبركة, الاسم الثلاثي لفتاة أظنّ أنّي أعرفها من أيام الدراسة الجامعية ، تتكلّم عن حبّ قديم وفزّاعة نصبتْها في حقل القمح كذكرى عن ذاك الحبّ الغائب. أفرغتُ السّائل في جوفي، لم يفارقني جفاف حلقي مع ثقل غرابٍ يقف على كتفي الأيسر يحاول نزع القبعة عن رأسي وثلاث زجاجات فارغة من البيرة الباردة مرمية قرب الكرسيّ الهزّاز.
وحش البحيرة
جلستُ على الشرفة، واضعاً يدي على مسند الكرسي، مازال أثر سقوطي عن الدرج بادياً، علامة زرقاء كقارة أتلنتس الغارقة وألم أقرب إلى الحنين. كان ابن جاري يرمي بلعبه من على شرفتهم ، فيما أمّه تشقّ شرشف الهواء البارد الملوّث بحبّات المطر بصراخها عليه، الطفل الصغير لم يكترث ورمى كلباً وفيلاً وعلى ما أظن تمساحاً، سقطوا بين أعشاب خضراء نمتْ قرب باب بيت الجيران.
عندما تعثرتُ لم أحتجْ وقتاً لأستقر في الأسفل على الأرض أو آخذ حذري لحماية رأسي، فالسقوط من سفرة الدرج إلى أسفلها كان كافياً لتحطيمي، لكن النهاية كانت سعيدة، مجرد رضّ على ساعدي الأيسر وكدمة على جبيني كالوحمة.
بينما رتقت أنفاسي المتهرئة لأنهض وأعدت ضبط ساعة أعصابي التي اهتزت عقاربها وعظامي التي تفرّقت عن مفاصلها كقطيع خراف ضربه الإعصار والراعي غائبٌ في بيت الذئب ، كنت أفكّر، لماذا لم أحمِ رأسي بيدي!؟ تركته عارياً في السقوط، هذا ليس من عادتي، ففي تجارب السقوط السابقة، كنت لا شعورياً أحمي رأسي باعتباره المنطقة الأضعف؛ هو ليس كالقلب والرئتين، فالقفص الصدري ينجز تلك المهمة كقبعة الجندي؛ ألهذا هشاشة الحب من ضعف مصدره، نردع عنه السقوط عبر سجنه، كذلك الهواء نضعه في قفص كالطير لنستمع إلى أوكسجينه، لكن ماذا عن الرأس بيت العقل والضمير والأفكار، ألهذه الدرجة لم تُعن الطبيعة بحمايته، فتركته عارياً فوق كتفين كدريئة في متناول المدى المجدي لأي سقوط !؟
توقف بكاء الطفل الذي رمى لعبه في الشّارع، فتحت الأم باب منزلها والتقطت الكلب والفيل وبقي التمساح بين الأعشاب. بدأ المطر في الهطول غزيراً وأظنّ أن التمساح الصغير سيسبح في مجرى الماء منحدراً إلى البحيرة ولربما بعد عدّة سنوات سيتكلّمون عن وحش البحيرة عندما يفترس أحد صيادي السمك.
فنّ الحرب
كان أبي صيّاداً، أهداني القصبة قبل السّمكة، كنّا نذهب سويّة إلى الحقل بعد المطر؛ لنحفر التربة الرطبة بحثاً عن دود الأرض؛ لتكون طعْماً نغري به السّمك أن يغادر ماءه إلى الهواء.
حدث هذا منذ زمنٍ بعيد، وعندما أصبحتُ أباً وحلّ وقت الحرب لم أضنّ على ابني بالمعرفة، فذهبنا كلانا إلى الحقل ولم يكن قد تجاوز سنّ السادسة من عمره وحفرنا التربة الرطبة بحثاً عن ديدان الأرض وملأنا دلواً من الدود ولمّا تمعّن ابني بكمية الدود الكبيرة، قال: سنصطاد برميلاً من السّمك.
في المساء غلبه النعاس باكراً من التعب ،فحملته إلى سريره هذا ما اعتدتُ أن أفعله منذ قُتلت أمّه في الحرب وقبل أن يغفو قلتُ له: سأعطيك القصبة التي أهداني إيّاها أبي، ثم سكبتُ دلو دود الأرض في سريره، هكذا تتعلَّم فنّ الموت ولا تموت، فاتبسم وقبّلني على خدي شاكراً وخلد إلى النوم سريعاً.